قد تبدو قصة مؤلف كتاب "تاريخ جبل عامل العثماني" كصفحة مأخوذة من كتب الملهمين، فهو ليس فقط مؤرخًا دقيقًا وإنما رجل أعمال ناجح اختار أن يترك وراءه عالم المال والأعمال لينير صفحات من تاريخ منطقة ارتبطت بحضارات وأديان وصراعات، ألا وهي جبل عامل.
هذا الكتاب الذي استغرق سنوات من العمل الدؤوب يجسد رؤية المؤلف في تقديم تاريخ غني ومتشعب بأسلوب منهجي وشامل. فهو كتاب لا يكتفي بالسرد الجاف للأحداث، بل يغوص في التفاصيل، يجمع بين التوثيق الدقيق والتوسع اللافت في شرح السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية.
من البزنس إلى التأريخ: قرار شجاع وفريد
المؤلف، الذي قضى عقودًا من حياته في إفريقيا كواحد من أبرز رجال الأعمال الناجحين، قرر في لحظة مفصلية ترك كل شيء. ترك عالم الأعمال المليء بالتحديات والمكاسب، وقرر أن يكرس حياته لكتابة التاريخ وإحياء التراث الشفهي لجبل عامل.
لم يكن هذا القرار عاديًا، فقد تطلب منه التخلي عن حياة الرفاهية والتنقل بين القارات ليستقر في قريته دير انطار الجنوبية، تلك القرية التي أحبها بعمق، كما أحب جبل عامل بكل تفاصيله. وفقًا لما قاله الباحث موسى ياسين عن المؤلف: "إنه رجل أحب قريته وجبل عامل حتى ترك كل قارات العالم ليستقر في جنوب لبنان، مع أنه يملك قصورًا وعقارات في أوروبا وأميركا."
إحياء التراث الشفهي: مهمة إنقاذ من النسيان
من بين أعظم إنجازات المؤلف أنه لم يكتفِ بتوثيق الأحداث التاريخية فقط، بل أضاف إلى موسوعته مادة غنية مأخوذة من التراث الشفهي. جمع الأمثال الشعبية والقصص التراثية التي كانت تتناقلها الأجيال شفهيًا، فأنقذها من خطر الضياع في عصر الثورة المعلوماتية.
هذا العمل ليس مجرد توثيق، بل هو محاولة جريئة لتثبيت ذاكرة الأجداد للأحفاد، ليكون الكتاب مرجعًا لكل من يريد أن يفهم روح جبل عامل، ليس فقط كأرض وتاريخ، ولكن كهوية ثقافية متجذرة في الوجدان الشعبي.
الدقة والتوسع: منهجية تستحق الثناء
ما يميز كتاب "تاريخ جبل عامل العثماني" هو عناية مؤلفه بالتفاصيل ودقته في تقديم المعلومات. استند في بحثه إلى مصادر متعددة، مما جعل كتابه أقرب ما يكون إلى الموسوعة الشاملة التي تغطي جميع جوانب حياة جبل عامل في الفترة العثمانية.
توسع في تناول التحولات السياسية والإدارية والاجتماعية.
سلط الضوء على الزعامات المحلية والصراعات الداخلية والخارجية.
وثق بحرفية الاقتصاد الزراعي والصناعي، ودور الموانئ في صيدا وصور في حركة التجارة.
هذا التوسع لم يكن مجرد سرد، بل كان تحليلًا دقيقًا يجعل القارئ يلمس روح تلك الحقبة، ويفهم أبعادها بوضوح.
إنسانية المؤلف: حب الوطن فوق كل شيء
بعيدًا عن كونه مؤرخًا أو رجل أعمال، يظهر المؤلف كإنسان يعكس حبه العميق لجبل عامل وقريته دير انطار. ترك القصور في أوروبا وأميركا، واختار أن يعيش بين أهله، ليكون شاهدًا على تاريخه، وكاتبًا أمينًا لتراثه. هذه التضحية تكشف عن شخصية استثنائية تحمل إحساسًا عميقًا بالمسؤولية تجاه الأرض والناس.
إرث لا ينسى
بفضل هذا الكتاب، لن تكون ذاكرة جبل عامل مجرد قصص شفوية معرضة للزوال، بل أصبحت إرثًا مكتوبًا يمكن أن يستفيد منه الباحثون والمؤرخون والأجيال القادمة.
هذا العمل العظيم يؤكد أن العشق الحقيقي للوطن يمكن أن يتجلى في أشكال عديدة، وأعظمها هو توثيق تاريخه وإنقاذ تراثه.
خاتمة
إن كتاب "تاريخ جبل عامل العثماني" ليس مجرد كتاب تاريخي، بل هو شهادة حية على أن حب الوطن يمكن أن يُلهم الإنسان ليحقق إنجازات استثنائية. المؤلف ليس فقط رجل أعمال ناجح أو مؤرخ بارع، بل هو رمز للوفاء لأرضه وشعبه، وسعيه لحفظ تاريخ جبل عامل سيظل محفورًا في ذاكرة كل من يقرأ هذا العمل العظيم.
إذا كان الوطن يُقاس بإنجازات أبنائه، فإن المؤلف قدم للوطن أعظم هدية يمكن أن تُمنح: تاريخًا يُقرأ وحضارة لا تُنسى.